ينبغي علينا مقاطعة شركة موبينيل

السبت، ١٦ مايو ٢٠٠٩

أحكام صلاة القصر


القول الفصل
في
أحكام صلاة القصر

الدكتور
صبري عبد الرءوف محمد
أستاذ الفقه المقارن ( المساعد )
جامعة الأزهر


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه .
وبعد :
فإن الصلاة عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين ومن هدمها فقد هدم الدين ، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد " (1 ) .
وجه الدلالة :
ووجه الدلالة من هذا الحديث الشريف أن الرسول صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى أن الإسلام هو رأس الأمر الذي يهم كل إنسان في دنياه وأخراه ، وأول ما يجب على المسلم أن يعتني به وأن يلم بأحكامه .
وأن العمود الأساسي الذي يقوم عليه هذا الدين هو الصلاة ، وأن أسمى عمل فيه هو الجهاد في سبيل الله ؛ لأن الحرمات تُصَان به ، وبه يظهر الإسلام ويعلو على سائر الأديان .
والصلاة صلة وثيقة تربط بين العبد وربه ، وهي قربة من أعظم القربات وهي بمثابة عهد يجدده الإنسان مع خالقه في اليوم والليلة خمس مرات فكلما ناداه المنادي : حي على الصلاة حي على الفلاح أقبل العبد على ربه خاضعا خاشعا يقف وقفة الذليل الخائف فيناجي ربه بأحب أسمائه وصفاته ، ويضع جبهته على الأرض تواضعا لعظمته جل جلاله ، لا فرق في ذلك بين غني أو فقير فالكل بين يدي الله سواء .
من هنا كانت الصلاة عبادة من أفضل العبادات وقربة من أعظم القربات ، كما أن الصلاة هي آخر وصية وصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عند مفارقته الدنيا فقال : " الصلاة وما ملكت أيمانكم " ( 1 ) والصلاة تدفع الإنسان دفعا إلى فعل الخير وتبعده عن الشر ، قال الله تعالى : (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (2 ) والصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء وعن كل ما يغضب الله إذا أداها صاحبها بخشوع وخضوع لله رب العالمين .
يقول الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية :
" لا سيما وإن أشعر نفسه أن هذا يكون آخر أعماله في الدنيا ، وهذا أبلغ في المقصود وأتم في المراد ؛ لأن الموت يأتي بغتة ، وليس للموت زمن مخصوص أو مرض معلوم . وروي عن بعض السلف أنه إذا أراد أن يقوم للصلاة ارتعد واصفر لونه فسأله بعض أصحابه يوما عن سبب ذلك فقال : إني أقف بين يدي الله تعالى وحالي هذا مع ملوك الدنيا ، فكيف مع ملك الملوك ( 1 ) .
والصلاة التي يقبل العبد فيها على ربه بقلب خالص ويؤديها كما ينبغي تكفر الذنوب وتمحو الخطايا وترفع الدرجات .
وقال تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) ( 2 ) .
***
تعريف الصلاة
التعريف اللغوي :
تطلق الصلاة في اللغة على عدة معان نذكر منها ما يأتي: - - الصلاة بمعنى الدعاء ، وقيل : أصلها في اللغة التعظيم .
وسميت الصلاة المخصوصة صلاة لما فيها من تعظيم الرب ولذلك يقال في التشهد : " الصلوات لله " أي الأدعية التي يراد بها تعظيم الله هو مستحقها لا تليق بأحد سواه ، وكذلك : " اللهم صل على سيدنا محمد " ، فمعناه : عظمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دعوته وإبقاء شريعته وفي الآخرة بتشفيعه في أمته وتضعيف أجره ومثوبته .
وقيل : المعنى : لما أمرنا الله سبحانه وتعالى بالصلاة عليه ، ولم نبلغ قدر الواجب من ذلك أحلناه على الله وقلنا : اللهم صل أنت على سيدنا محمد لأنك أعلم بما يليق به ( 1 ) .
وقال ابن الأعرابي : " الصلاة من الله رحمة ، ومن المخلوقين القيام والركوع والسجود والدعاء والتسبيح ، والصلاة مـن الطيـر والهوام التسبيح " ( 2 ) .
وقيل : هي مأخوذة من اللزوم ومنه : صَلَى بالنار إذا لزمها ومن ذلك قوله تعالى : ( تَصْلَى نارًا حامية ) ( 3 ) .
وكأن المعنى - على هذا - ملازمة العبادة على الحد الذي أمر الله تعالى به ، وتطلق الصلاة ويراد بها العبادة ، ومن ذلك قوله تعالى : ( وما كان صلاتهم عند البيت ) أي عبادتهم ، وتطلق ويراد بها النافلة ومنه قوله تعالى : ( وأمر أهلك بالصلاة ) والصلاة بمعنى التسبيح ومنه قوله تعالى : ( ولا تجهر بصلاتك ) أي لا تجهر بقراءتك ( 4 ) ، وعلى هذه المعاني السابقة يكون لفظ الصلاة من الألفاظ المشتركة ، وقد لاحظنا من معانيها السابقة أنها مشتركة بين الدعاء والتعظيم والرحمة والبركة .
التعريف الشرعي للصلاة :
وهي أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم ( 1 ) .
حكمها :
فرض عين على كل مسلم بالغ عاقل وثبت ذلك بالكتاب والسنة والإجماع .
فضلها :
الصلاة أفضل عبادات البدن بعد الإسلام ؛ لأنها تلو الإيمان الذي هو أفضل القرب ؛ لاشتمالها على نطق باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان ؛ ولأنها تجمع من القرب ما تفرق في غيرها من ذكر الله تعالى ورسوله والقراءة والتسبيح واللبث والاستقبال والطهارة والسترة وترك الأكل والكلام ، وغير ذلك مع اختصاصها بالركوع والسجود وغيرهما .
وإذا كانت الصلاة أفضل العبادات ففرضها أفضل الفروض وتطوعها أفضل التطوع ( 2 ).
والصلاة تكفر الذنوب وتمحو الخطايا وتباعد بين الإنسان وبين ما حرم الله عز وجل عليه ، وتكون سببا في دخول الجنة ، قال صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع : " اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وحجوا بيتكم وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم تدخلوا جنة ربكم " ( 1 ) .
فالصلاة نعمة من الله عز وجل امتن بها على عباده ، ومن الواجب علينا أن نحافظ على هذه النعمة ، وأن نشكر الله عليها بالمحافظة عليها وأدائها في أوقاتها كاملة غير منقوصة طاعة لله رب العالمين .
والصلاة وسيلة لكشف الضر والنجاة من العقاب والشر ؛ ولهذا سنت صلاة الكسوف والخسوف كما أنها مجلبة للخير والحياة ، ولهذا شرعت صلاة الاستسقاء للتضرع فيها إلى الله طلبا للنعمة ، وكذلك هي أمان واطمئنان عند الفزع ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أهمه أمر فزع إلى الصلاة ، كما أنها في صفوفها المنتظمة في الجماعات والجمع والأعياد مظهر للعزة والقوة ورهبة الأعداء ، وهي فوق ذلك وسيلة للمغفرة والرحمة في صلاة الجنازة .
***
كيف فرضت الصلاة :
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : -
" سمعت من أثق بخبره وعلمه أن الله سبحانه وتعالى أنزل فرضا في الصلاة ثم نسخه بفرض غيره ، ثم نسخ الثاني بالفرض في الصلوات الخمس كأنه يعني قوله الله عز وجل : (يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلا ً) ( 1 ) ثم نسخها في نفس السورة بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ) إلى قوله : (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) ( 2 ) فنسخ قيام الليل أو نصفه أو أقل أو أكثر بما تيسر وما أشبه ( 3 ) وقال رحمه الله تعالى : " إن الذي نسخ آية المزمل هو قول الله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) ودلوكها زوالها ( إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) أي العتمة ( وَقُرْآنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ) الصبح ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ) فأعلم اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم أن صلاة الليل نافلة لا فريضة وأن الفرائض فيها ذكر من ليل أو نهار ( 4 ) .
ويقال في قول الله عز وجل : (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ ) المغرب والعشاء ، ( وحِينَ تُصْبِحُونَ ) الصبح ، ( وَلَهُ الحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا ) والعصر ( وَحِينَ تُظْهِرُونَ ) ( 5 ) الظهر .
وقد أجمع الفقهاء على أن فريضة الصلاة كانت في ليلة الإسراء والمعراج ، وقد فرضها الله سبحانه وتعالى علينا خمس صلوات في اليوم والليلة ( 1 ) .
ونرى عظمة الإسلام في تشريعه وتيسيره على الناس وشفقته ورأفته بأبنائه فأباح للمسافر قصر الصلاة لما في السفر من مشقة ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " السفر قطعة من العذاب ، يَمنع أحدَكم طعامَه وشرابَه ونومَه ، فإذا قضى أحدكم نَهْمَتَهُ من سفره فليعجل إلى أهله " ( 2 ) .
وجه الدلالة :
ووجه الدلالة من هذا الحديث الشريف أن السفر قطعة من العذاب ويكفي أنه يجعل المسافر لا يشعر بكمال لذته في طعامه وشرابه لما في ذلك من المشقة والتعب ومقاساة الحر والبرد ومفارقة الأهل والأصحاب وخشونة العيش ( وهذا على سبيل التغليب ) .
ومعنى " فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعجل إلى أهله " النَّهْمَة : - بفتح النون وإسكان الهاء - هي الحاجة .
والمقصود من هذا الحديث استحباب تعجيل الرجوع إلى الأهل بعد قضاء مصالحه والانتهاء من أعماله التي سافر من أجلها ، ولا يجوز له أن يتأخر إلا لأمر مهم .
والذي يُفهم من هذا الحديث النبوي الشريف أنه لا يجوز للمسافر أن يترك أهله لغير سبب ؛ لأن المستحب أن يرجع إليهم على وجه السرعة ، وذلك لحاجتهم إلى تقويته وقيامه بأمرهم .
وقد قرر الفقهاء أن السفر يعتبر سببا من أسباب التخفيف لما فيه من مشقة ولحاجة المسافر إلى التقلب في حاجاته ؛ ولهذا كان السفر سببا من أسباب المشقة بل اعتبر نفس السفر سببا للرخص وأقيم مقام المشقة ( 1 ) .
والمسافر معرض للأخطار ووعثاء السفر إذ يكون دائما مشغول البال كما هو معلوم لدى من كابد عناء ومشقة الأسفار ( 2 ) .
من أجل كل ما سبق كان هذا البحث .

خطة البحث :
وقد اشتمل هذا البحث على ثلاثة فصول وخاتمة :
الفصل الأول : في مشروعية القصر
واشتمل على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول :
ماهية القصر وحكمه
المبحث الثاني :
أفضلية قصر الصلاة أو الإتمام
المبحث الثالث :
حقيقة قصر الصلاة
الفصل الثاني : السفر وأحكامه
واشتمل على خمسة مباحث :
المبحث الأول :
المسافة التي تبيح القصر
المبحث الثاني :
السفر المبيح للقصر
المبحث الثالث :
الموضع الذي يبدأ منه القصر
المبحث الرابع :
مدة القصر
المبحث الخامس :
أحكام متعلقة بصلاة المسافر
الفصل الثالث : أحكام الجمع بين الصلاتين
واشتمل على خمسة مباحث :
المبحث الأول :
الجمع بسبب السفر
المبحث الثاني :
الجمع بسبب المطر
المبحث الثالث :
الجمع بسبب المرض
المبحث الرابع :
الجمع لغير سبب المطر والمرض
المبحث الخامس :
حكم الأذان والإقامة للجمع بين الصلاتين
الخاتمة : واشتملت على أهم نتائج البحث .
***
منهجي في البحث :
1 – سأقوم - بتوفيق من الله وعنايته - بعرض المسألة عن طريق ذكر أقوال الفقهاء وأدلتهم مبينا سبب اختلافهم ، ومناقشة أدلتهم مع ذكر الدليل الراجح لكل مسألة من غير تعصب مذهبي .
2 – عزو الآيات القرآنية إلى سورها مع بيان وجه الدلالة فيها .
3 – تخريج الأحاديث النبوية من كتب السنة الصحيحة التي يعتد بها مع بيان وجه الدلالة من الحديث .
4 – الرجوع إلى المراجع الفقهية لكل مذهب والاعتماد على أمهات الكتب التي يعتد بها .
هذا وإنني دائما أستعين بالله في كل عمل من أعمالي وحسبي أنني بشر أصيب وأخطئ ؛ وذلك لأن الكمال لله وحده ، والله وحده حسبي ونعم الوكيل .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الدكتور
صبري عبد الرءوف محمد

الفصل الأول
في
حكم القصر ومشروعيته

ويشتمل على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول :
حكم القصر ودليله
المبحث الثاني :
أفضلية قصر الصلاة أو الإتمام
المبحث الثالث :
حقيقة قصر الصلاة


المبحث الأول
حكم القصر ودليله








تعريف القصر :
القصر في اللغة معناه - كما جاء في لسان العرب - : القَصْرُ والقِصَرُ في كل شيء: خلافُ الطُّولِ ؛ وقَصُرَ الشيءُ ، بالضم، يَقْصُرُ قِصَراً: خلاف طال؛ وقَصَرْتُ من الصلاة أَقْصُر قَصْراً والقَصِيرُ: خلاف الطويل ( 1 ).
وهذا المعنى اللغوي يبين لنا أن الإنسان حينما كان مسافرا وأدى الصلاة الرباعية كانت الصلاة طويلة ، فلما قصرها وصلاها ركعتين كانت الصلاة قصيرة .
وهنا فإننا حينما نرى بعض الفقهاء يعبرون عن هذا بصلاة المسافر ، إنما يقصدون غير المقيم في وطنه .
تعريف قصر الصلاة عند الفقهاء :
السفر : قطع المسافة ، وليس كل قطع تتغير به الأحكام بل المراد قطع خاص ( 2 ).
وقيل : المسافر هو المتلبس بالسفر وهو قطع مسافة مخصوصة ، وجمعه أسفار ، وسمي قطعها سفرا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال أي يكشفها ويبينها ( 3 ) .
ولهذا فقد آثرت أن يكون حديثي هنا عن قصر الصلاة ، وقصدت بهذا العنوان أن يكون حديثي عن قصر الصلاة وأحكامها ، أما الحديث عن صلاة المسافر فقط فهذا معناه أن القصر لغير السفر لا يجوز ، ومن هنا أردت أن يكون بحثي واضحا وشاملا للقصر بسبب السفر أو بغيره ؛ ليعم جميع الأسباب التي تبيح للمسافر قصر الصلاة خاصة وأن الشريعة الإسلامية قائمة على التيسير .
حكم القصر :
لا خلاف بين الفقهاء في إتمام الصلاة في الحضر ، وعلى جواز القصر في السفر ، لكنهم اختلفوا في حكم القصر أثناء السفر على قولين :
القول الأول :
أن المسافر مخير بين القصر والإتمام فإن شاء قصر الصلاة وإن شاء أتم ، وهذا هو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة ، لكن المالكية يرون أن القصر سنة مؤكدة ، وهذا معناه أن القصر أفضل من الإتمام ، وبهذا أخذ الحنابلة أيضا .
أما الشافعية فقد ذهبوا إلى أن الإتمام أفضل من القصر ؛ لأنه أكثر عددا وعملا ، وهو الأصل فكان أفضل إلا إذا كانت مدة السفر ثلاثة أيام خروجا من الخلاف ( 1 ) .
القول الثاني : أن قصر الصلاة واجب : وهذا هو مذهب الإمام أبي حنيفة وداود وابن حزم ( 2 ) .
ثمرة الخلاف :
وتظهر ثمرة هذا الاختلاف فيما إذا كان الإنسان مسافرا وصلى الظهر أربعا ، فإن صلاته تكون صحيحة عند جمهور الفقهاء : المالكية والشافعية والحنابلة ، وتكون صلاته باطلة عند أبي حنيفة ومن معه ، بل إنهم يوجبون إعادة الصلاة على من كان مسافرا وصلى الظهر أربعا .
سبب الاختلاف :
ويرجع سبب الاختلاف بين الفقهاء في هذه المسألة إلى اختلافهم في أمرين : الأمر الأول : تعارض الآثار الواردة في ذلك .
الأمر الثاني : هل قصر الصلاة رخصة أو عزيمة ؟ هذا هو ما سنبحثه بالتفصيل إن شاء الله تعالى في موضعه .
دليل مشروعية قصر الصلاة :
إن جميع الفقهاء قد اتفقوا على مشروعية قصر الصلاة مستدلين على ذلك بما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أولا : دليل الكتاب :
قال تعالى : ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُواًّ مُّبِيناً ) ( 1 ) .
وجه الدلالة :
ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى قال : ( ليس عليكم جناح ) ونفْي الجُناح معناه : نفي الحرج ، وهذا يدل على أن الله سبحانه وتعالى أراد التخفيف عن المسافر حال سفره .
روي عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : " سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : " إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي ؟ " فأنزل الله تعالى : (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) ثم انقطع الكلام ، فلما كان بعد ذلك بحول غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم ؟ فقال قائل منهم : إن لهم أخرى في أثرها ، فأنزل الله بين الصلاتين (إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُواًّ مُّبِيناً ) فشرعت صلاة الخوف .
وفي ذلك دليل على مشروعية القصر من غير خوف ( 1 ) .
وما دام الأمر كذلك فإن ذلك ينفي قول من يرى أن قصر الصلاة لا يجوز إلا في حالة الخوف فقط .
ثانيا : دليل السنة :
عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان أول ما افترض الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ركعتين ركعتين إلا المغرب فإنها كانت ثلاثا ، ثم أتم الله الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعا في الحضر وأقر الصلاة على فرضها الأول في السفر" ( 2 ) .

وجه الدلالة :
ووجه الدلالة من هذا الحديث النبوي الشريف أن السيدة عائشة رضي الله عنها بينت لنا أن الصلاة حينما افترضها الله عز وجل ليلة الإسراء والمعراج افترضها ركعتين ركعتين إلا المغرب فإنها فرضت ثلاثا ، ثم كان الوحي بجعل صلاة الظهر والعصر والعشاء أربعا في الحضر ، أما في السفر فقد بقيت الصلاة على ما كانت عليه ، وهذا يؤكد لنا مشروعية قصر الصلاة الرباعية .
ولا يهمنا هنا إن كانت الصلاة في أول أمرها ركعتين في السفر ثم زيدت في الحضر أو أنها كانت أربعا أول أمرها ثم أصبحت ركعتين في السفر وظلت على ما هي عليه في الحضر .
فما دامت صلاة المسافر ركعتين والمقيم أربعا ، فهذا يدل على مشروعية قصر الصلاة وذلك لورود حديث آخر نصه : عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " فرض الله عز وجل صلاة الحضر أربعا وفي السفر ركعتين والخوف ركعة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم " ( 1 ) .
وجاء في الحديث الذي يليه :
عن عبيد الله بن زحر أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : " أيها الناس إن الله فرض لكم على لسان نبيكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين " ( 1 ) .
وجه الدلالة :
ووجه الدلالة من الحديثين السابقين أن الله سبحانه وتعالى فرض الصلاة أربعا للظهر والعصر والعشاء ، وظلت على ما هي عليه في الحضر ، وقصرت في السفر ، وكما سبق لنا القول أن المراد هو بيان مشروعية القصر ، وسواء أكانت الصلاة في أول أمرها ركعتين ثم زيد أو كانت تامة ثم قصرت ، فكل هذا ما دام ثابتا بنص فإنه يكون مشروعا .
وقد قال كثير من الفقهاء : إن المراد زيادة الصلاة بعد الهجرة النبوية ، واستقر الأمر على ذلك جمعا بين الأدلة حتى لا يتعارض ذلك مع حديث السيدة عائشة رضي الله عنها وهو حديث متفق عليه .
وقال الإمام النووي رحمه الله : " هذا الحديث قد عمل بظاهره طائفة من السلف منهم الحسن والضحاك وإسحاق بن راهويه وقال مالك والشافعي والجمهور : إن صلاة الخوف كصلاة الأمن في عدد الركعات ، فإن كانت في الحضر وجب أربع ركعات ، وإن كانت في السفر وجب ركعتين ، ولا يجوز الاقتصار على ركعة واحدة في حال من الأحوال .
وتأولوا حديث ابن عباس هذا وهو قوله : " والخوف ركعة " على أن المراد ركعة مع الإمام وركعة أخرى يأتي بها منفردا ، كما جاءت الأحاديث الصحيحة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الخوف ( 1 ) .
وهذا التأويل لا بد منه للجمع بين الأدلة .
ثالثا : دليل الإجماع :
وقد أجمعت الأمة الإسلامية على مشروعية قصر الصلاة في السفر ؛ لثبوت ذلك بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، وما كان عليه العمل على عهد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد التابعين ، وظل هذا إلى يومنا وسيظل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وهذا أمر متفق عليه بين السلف والخلف ولم ينكره أحد .







المبحث الثاني
في
الرخصة والعزيمة والحكمة من مشروعية الرُّخَص
الرخصة والعزيمة
لقد رأيت أننا ما دمنا نرغب في بيان حكم قصر الصلاة ، وعرفنا أن قصر الصلاة مشروع بالقرآن والسنة والإجماع ، فلابد من بيان حكم القصر للصلاة : هل هو رخصة أو عزيمة لنستطيع بعد ذلك أن نقول : هل الأفضل قصر الصلاة أو إتمامها ؟
ونظرا لأن هذه المسألة مسألة اختلف الفقهاء فيها كان لزاما علينا أن نوضح الفرق بين الرخصة والعزيمة فنستعين بالله ونقول :
أولا : تعريف العزيمة :
العزيمة في اللغة : القصد المؤكد بمعنى الجد والاجتهاد في الأمر وهي عزم على الشيء بمعنى : عقد ضميره على فعله ، وعزيمة الله فريضته التي افترضها والجمع عزائم ( 1 ) .
تعريف العزيمة عند الفقهاء :
هي : عبارة عن الحكم الأصلي السالم موجبه عن المُعَارض كالصلوات الخمس من العبادات ومشروعية البيع وغيرهما من التكاليف ( 2 ) .
وقال الغزالي في " المستصفى " : هي عبارة عما لزم العباد بإيجاب الله تعالى ( 3 ).
وهذان التعريفان معناهما : أن العزيمة هي الأحكام التي افترضها الله عز وجل على عباده ابتداء كمشروعية الصوم والقيام في الصلاة ونحو ذلك .
تعريف الرخصة :
هي في اللغة : نعومة الملمس ، والإذن في الأمر بعد النهي عنه ، والتسهيل في الأمر والتيسير ، ويقال : رخَّص الشرع لنا في الأمر ترخيصا إذا يسَّرَه وسهَّله .
والرخصة ضد التشديد أي أنها تعني التيسير في الأمور ( 1 ).
والرخصة عند الفقهاء هي : عبارة عما وُسِّعَ للمكلف في فعله لعذر عجز عنه مع قيام السبب المُحَرم ( 2 ) ، ومعنى هذا أن الرخصة : ما شرعه الله عز وجل من الأحكام وجعله الله مبنيا على أعذار العباد لوجود المشقة أو العجز عن إتيان الفعل .
الحكمة من تشريع الرُّخَص :
الشريعة الإسلامية قائمة على التيسير ، ومن الأسس التي قامت عليها رفع الحرج ، وهذا المبدأ الإسلامي يدل على رحمة الله عز وجل بعباده .
قال الله تعالى في سورة البقرة : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ ) ( 1 ) .
وجه الدلالة :
وهذه الآية الكريمة تبين لنا أن اليسر صفة أساسية في دين الله كما أن التيسير مقصد أساسي من مقاصد الشريعة .
وقال جل شأنه في سورة الحج :
(وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ( 2 ) .
وجه الدلالة :
وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى يبين في هذه الآية الكريمة يسر الإسلام وسعته ، وما جعل فيه من التوبة والكفارات ، ومما يؤكد أن الله سبحانه وتعالى شرع الرُّخَص رحمة بعباده ما جاء في قوله تعالى :
(يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفا) ( 3 ) ووجه الدلالة من الآية الكريمة واضح المعنى .
وقال صلى الله عليه وسلم :
" إن الله تعالى لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا " ( 1 ) .
وجه الدلالة :
ووجه الدلالة من هذا الحديث النبوي الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بيَّنَ أن الله سبحانه وتعالى لم يبعثه معقدا للأمور أو متشددا على الناس أو مضيِّقًا عليهم ، وإنما بعثه بالحنيفية السمحة ، وكل هذه الأمور نراها واضحة من خلال تعاليم الإسلام وإرشاداته الحكيمة التي ترفع الحرج والمشقة عن جميع الناس ، وللرخص تقسيمات متعددة ذكرها الأصوليون في كتبهم ، فليرجع إليها من شاء .
حكم الأخذ بالعزيمة أو الرخصة :
المتأمل لأحكام الشريعة الإسلامية يتبين له أن تعاليم الإسلام قائمة على التيسير ورفع الحرج عن المكلفين ، ولهذا فإن الشريعة الإسلامية ترفع الحرج عن الإنسان في الأخذ بالعزيمة أو الأخذ بالرخصة .
وهذا معناه أن الإنسان مخير في بعض الحالات ، وله أن يفعل ما شاء منهما ؛ لأن ما بينهما صار بمثابة الواجب المخير الذي يُكْتَفَى فيه بالإتيان بأي نوع من أنواعه .
ولكن مع هذا كان للترجيح مجال رحب غزير تباينت فيه أقوال المجتهدين ؛ لأنهم بين مرجح للأخذ بالعزيمة أو الأخذ بالرخصة .
وقد استدل كل فريق منهم بما ذهب إليه مستدلا بالدليل الذي اطمأن إليه قلبه ( 1 ) .
أما عن تتبع الرخص من أجل الأخذ بالأيسر فإن الفقهاء قد ذهبوا إلى أن الأخذ بالرخص الشرعية الثابتة بالكتاب أو السنة لا بأس في تتبعها ؛ وذلك لورود نص صريح في ذلك ؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إن الله يحب أن تُؤْتَى رُخَصُهُ كما يحب أن تُؤْتَى عزائمُه " ( 2 ) .
ووجه الدلالة من هذا الحديث النبوي الشريف أن الرسول صلى الله عليه وسلم أباح للإنسان أن يأخذ بالرخصة أو بالعزيمة ، وكلاهما سواء في الحكم ما دام الأمر قد بني على نص صريح في ذلك .
أما تتبع الرخص الاجتهادية من أجل الهروب من التكاليف الشرعية فإن هذا يعتبر هدما لعـزائم الأوامـر والنواهي وجحودًا وإنكارًا لحق الله عز وجل في العبادة .
وهذا يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية التي تحث على التخفيف وعلى الأخذ بالرخص مادام قد وجد المبرر لها من كتاب الله أو سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونُقِلَ عن الإمام ابن حزم أنه يرى أن مثل ذلك من الخروج عن الدين ، ولو أن كل إنسان أخذ برخصة كل عالم اجتمع فيه الشر كله ( 1 ) .
ومن كل ما سبق نستطيع أن نقول :
إن الأخذ بالرخصة لا يعني تتبعها والبحث عنها للتحلل من التكاليف ، وإنما يعني الانتقال من تكليف أشد إلى تكليف أخف لسبب شرعي ، أما في غير ذلك فإنه لا يجوز .

***
حكم القصر
ذهب الحنفية والهادوية إلى أن القصر عزيمة ( 1 ) ، وذهب الشافعية والمالكية والحنابلة وغيرهم إلى أن القصر رخصة ( 2 ) .
وينبني على مذهب الحنفية ومن معهم أن من صلى أربع ركعات وهو مسافر بجلوس واحد بعد الأربع كانت تلك الصلاة باطلة لأنه ترك الجلوس الفاصل بين الركعتين الأوليين والأخيرتين الذي هو فرض ، ولما ترك فرضا بطلت صلاته ، وأنه إن أتى به صحت صلاته وتكون الركعتين الأخيرتين نافلة ، هذا هو مذهب بعض الصحابة والتابعين ، فمن الصحابة : علي وعمر وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم جميعا ، ومن التابعين : عمر بن عبد العزيز وقتادة والحسن .
والقائلون بأن القصر رخصة اختلفوا في حكمها :
فقال المالكية : إن حكم القصر سنة مؤكدة ، فإن تركه عمدا أعاد في الوقت وإن تركه نسيانا سجد للسهو ( 3 ) .
وقالت الحنابلة: القصر مندوب وعلى ذلك : فإن القصر أفضل من الإتمام ( 4 ) .
وفصَّل الشافعية: إن كان السفر ثلاثة أيام فالقصر أفضل ، وإن كان دونها فالإتمام أفضل ( 1 ) .
سبب الخلاف : وسبب الخلاف في هذا هو تعارض الآثار : -
الأدلة : دليل الحنفية :
1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت : " فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيدت في صلاة الحضر " ( 2 ) .
وجه الدلالة :
والوجه منه على المدعى : أن السيدة عائشة رضي الله عنها أخبرت بأن الصلاة فرضت ركعتين ركعتين ، واستقر أمرها على ذلك بعد في السفر ، وزيدت صلاة الحضر .
ويشهد لذلك : قول عائشة في بعض الروايات عنها : " فرضت الصلاة ركعتين فزيدت في الحضر وأقرت في السفر " .
2 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " صحبت النبي صلى الله عليه وسلم وكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك " ( 3 ) .
وجه الدلالة :
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ملازما للقصر في جميع أسفاره ، وصار من جاء بعده رضي الله عنهم على القصر ، فلو كان غير فرض ما حافظ عليه الخلفاء .
3 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا ونحن ضلال فكان فيما علمنا : أن الله عز وجل أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر " رواه النسائي ( 1 ).
4 - عن ابن شهاب عن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن أمية بن عبد الله بن خالد أنه قال لعبد الله بن عمر : " إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن ولا نجد صلاة السفر في القرآن ؟" فقال ابن عمر :
" يا ابن أخي : إن الله عز وجل بعث إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا وإنما نفعل كما رأينا محمدا صلى الله عليه وسلم يفعل " ( 2 ) .
وجه الدلالة :
ووجه الدلالة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقصر الصلاة ويصلي ركعتين في السفر ، وهذا دليل على أن القصر متعين وفرض ؛ وذلك لفعله صلى الله عليه وسلم ولاقتداء الصحابة به ، ولو لم يكن القصر واجبا لنهاهم عن الاقتداء ولكن لم يفعل ، فدل ذلك على مشروعيته وفرضيته .
5 - عن عمر رضي الله عنه أنه قال : " صلاة الجمعة ركعتان والفطر ركعتان والنحر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم " ( 1 ) .
وجه الدلالة :
أن قول عمر رضي الله عنه :
" تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم " يدل على أنها شرعت هكذا ، واستمر العمل على ذلك عصر الصحابة حتى خلافة عمر ، ولم يثبت أن أحدا من الصحابة الكرام أنكر على غيره قصر الصلاة ، وهذا يدل على وجوبها .
دليل المعقول :
واستدلوا بالمعقول فقالوا : إن الركعتين الأخيرتين من الرباعية لا يأثم التارك لهما إذا كان مسافرا ولا يؤمر بقضائها ؛ وذلك لأن الترخص في الترك المطلق مع قيام الفرضية لا يُتَصور .
مناقشة دليل الحنفية :
أولا : إن حديث عائشة الأول غير مرفوع ؛ لأنها لم تشهد فرضية الصلاة ؛ لأن الصلاة فرضت بمكة صبيحة الإسراء ، وعائشة حينذاك صغيرة .
ثانيا : إن حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الدالّ على الملازمة لا يدل على الفرضية إلا بدليل ولا دليل ، فكم من سنن كثيرة واظب عليها الرسول صلى الله عليه وسلم كالمضمضة وغسل اليدين إلى الكوعين مع أنها ليست بفرض اتفاقا .
ثالثا : حديث عمر لا تقوم به حجة ، وذلك لأن من رواته عبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الرحمن لم يسمع من عمر رضي الله عنه ؛ لأنه ولد لست سنوات بقين من خلافة عمر .
مناقشة دليل المعقول :
إن عدم الإثم بالترك لا يستلزم عدم الوجوب ، فكم من فرائض لا يأثم المكلف بتركها مع أنها فرض ، مثال ذلك : الزيادة في السجود والركوع على ثلاث تسبيحات ، وصوم المسافر ، وحج الفقير فإنه إذا أتى بها فهي تسقط الفرض، وإن تركها لا يأثم بتركها ، فدل ذلك على أن عدم الإثم بالترك لا يستلزم عدم الوجوب .
دليل الجمهور :
استدل الجمهور بالكتاب والسنة والقياس :
أما الكتاب فقوله تعالى : (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُواًّ مُّبِيناً ) الآية ( 1 ) .
وجه الدلالة :
إن الله نفى الحرج والإثم عن الذين ضربوا في الأرض إذا قصروا الصلاة .
قال الشافعي : " لا يُسْتَعْمَل الجُنَاح إلا في المباح ، وقد ورد في القرآن الكريم قال تعالى : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ) ( 2 ) .
وقال : (وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ) ( 3 ) وقال تعالى : ( لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ) ( 4 ) إلى غير ذلك من الآيات المتعددة التي تدل على أن لفظ الجناح في القرآن الكريم يأتي ويراد به رفع الحرج ، وهذا يدل على جواز القصر لا على وجوبه .
أما السنة : فعن يعلى بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) وقد أمن الناس ؟ قال : " عجبتُ مما عجبتَ منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " ( 1 ) .
وجه الدلالة :
1 - إن التعبير عن القصر بالصدقة يدل على أن القصر ليس بواجب ، وما ليس بواجب يكون رخصة .
2 - ما جاء في صحيح مسلم وغيره أن الصحابة رضي الله عنهم جميعا كانوا يسافرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنهم القاصر ومنهم المتم ، ومنهم الصائم ومنهم المفطر ، ولا يعيب بعضهم على بعض " ( 2 ) .
وجه الدلالة :
أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا مع الرسول في سفر فأقرهم على صنيعهم وهو الإتمام والقصر والصوم والفطر ، على أن ذلك كان بحضرته ولم يعب بعضهم على بعض .
3 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويصوم ويفطر " رواه الدارقطني وقال : إسناده صحيح ( 1 ) .
وجه الدلالة :
إن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه القصر والإتمام في السفر فلو كان القصر فرضا ما أتمه ، فدل ذلك على أنه غير فرض.
4 - عن عائشة رضي الله عنها قالت : " خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان فأفطر وصمتُ وقصرَ وأتممتُ ، فقلت : بأبي أنت وأمي أفطرتَ وصمتُ وقصرتَ وأتممتُ " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحسنتِ يا عائشة رواه الدارقطني وقال : إسناده حسن ( 2 ) .
وجه الدلالة :
أن إقراره لعائشة على الإتمام والصوم يدل على عدم وجوب القصر ، إذ لو كان القصر فرضا لنهاها عن ذلك ، لكنه حسَّن فعلها.
5 - عن عبد الرحمن بن يزيد قال : " صلى بنا عثمان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات ، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه فاسترجع ثم قال : " صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين وصليت مع أبي بكر رضي الله عنه ركعتين وصليت مع عمر رضي الله عنه ركعتين ، فليت حظي مع أربع ركعات ، ركعتان متقبلتان " ( 1 ) .
وجه الدلالة :
أنه لو كان القصر فرضا لما أتم عثمان رضي الله عنه الرباعية ، لكنه أتم فدل على عدم فرضيته .
***
دليل القياس :
واستدلوا بالقياس فقالوا :
أولا : أجمع الفقهاء على صحة اقتداء المسافر بالمقيم ، وأن فرضه الإتمام حينئذ ، كما اتفقوا على صحة صلاته ، فلو كان القصر فرضا لما تغير بنية الإمام الطارئة ، لكنه تغير فوجب على المسافر الإتمام ، فدل على أن القصر ليس بفرض ، فإذا اقتدى شخص يصلي الصبح بشافعي يصلي الظهر ، فإن صلاة الصبح لا تنقل فرضه بالاقتداء الواقع منه .
ثانيا : إنه رخصة أبيح للسفر كالفطر والمسح على الخفين وهما مما يجوز تركهما باتفاق العلماء ، فكذا القصر ( 1 ) .
مناقشة أدلة الجمهور :
مناقشة دليل الكتاب :
أولا : لا نسلم أن الآية التي استدللتم بها ، وهي قوله تعالى :
( وإذا ضربتم في الأرض ) الآية
تثبت مدعاكم في قصر الصلاة في السفر ، وذلك لوجوه : -
الأول : أن الآية إنما نزلت بيانا في قصر الصفة في صلاة الخوف ؛ لأن مشروعية قصر العدد في صلاة السفر سابق على نزول هذه الآية ، فلا تصلح الآية بيانا لكم .
الثاني : ومما يدل على حملها على قصر الصفة في صلاة الخوف الآية اللاحقة ، وهي قوله تعالى :
( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ) الآية .
الثالث : أن قصر الصلاة الذي دلت عليه الآية مشروط بالخوف كما يدل عليه قوله تعالى : ( إن خفتم ) ، وحمل الآية على العموم خروج عن مقتضى الظاهر لا يصار إليه إلا بدليل ولا دليل .
فإن قيل : إن الآية محمولة على العموم ، وقد فهم ذلك بعض الصحابة كعمر ويدل على ذلك قوله في الحديث السابق :
" عجبتُ مما عجبتَ منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " (1 ) ،
فعلم عمر من هذا أن الآية لا تكون نصا في المدعى ( 2 ).
مناقشة أدلة السنة :
أولا : قيل لهم في حديث يعلى الذي استدلوا به أنه لا يدل على المدعى وذلك لأن لفظ " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " لا يدل على الرخصة ؛ وذلك لأن الشارع إنما أراد بهذا التعبير اليسر وعدم الحرج ، وإذا كان المراد هو اليسر وعدم الحرج ، أمكن التعبير بالصدقة عن كثير من الواجبات ، قال تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) ( 3 ) مع أن المراد بالصدقة في الآية الزكاة عند أكثر المفسرين ، والزكاة فرض بالاتفاق .
ثانيا : إن ما استدل به الجمهور رواية عن الإمام مسلم رضي الله عنه ، وقد قال الشوكاني : بحثنا في صحيح مسلم فلم نجد قوله : " فمنا القاصر ومنا المتم " ، بل وجدنا : " فمنهم المفطر ومنهم الصائم " ( 1 ) .
إذن فهذه اللفظة زيادة غير محفوظة ، فسقط الاستدلال بما روي عن مسلم ، فإن سلمنا ثبوتها عنه لكنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على فعلهم .
فإن قيل : إنه لم يعب بعضهم بعضا على ما وقع منهم من القصر والإتمام والصوم والفطر فكان ذلك إجماعا، والإجماع حجة .
قلنا : إن إجماعهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم غير معتبر ؛ لأن إجماعهم يكون حجة بعد موته صلى الله عليه وسلم .
وأما ما احتج به الجمهور من إتمام عثمان فلا يصلح دليلا على مدعاكم ؛ ذلك لاختلافهم فيه وإنكار بعضهم عليه ، وتأولوه بتأويلات مختلفة ، فلو كان رخصة ما ساغ الإنكار عليه .
ثالثا : ردوا على ما استدل به الجمهور من حديث عائشة الذي خرجت فيه مع النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة في رمضان بمناقشات منها :
1 - مناقشة سند الحديث : إن في إسناده العلاء بن زهير ، قال فيه ابن حبان : كان يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات ، فبطل الاحتجاج به ، وفي إسناده عبد الرحمن بن الأسود كذلك لأنه لم يثبت سماعه من عائشة ، فقد دخل عليها وهو صغير ولم يسمع منها كما قال أبو حاتم ، وبذلك يكون غير صالح للاحتجاج به لانقطاعه .
2 - مناقشة متن الحديث : قال صاحب البدر المنير : إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع مرات ليست واحدة منها في رمضان فيكون قولها : " خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان " كلام منكر مخالف للواقع .
مناقشة دليل القياس :
فمع إجماع الفقهاء على أن فرض المسافر المقتدي بالمقيم الإتمام لجواز القصر له ، قال إسحاق بن راهويه : يجوز القصر للمسافر المقتدي بالمقيم .
مناقشة الحنفية لدليل الجمهور :
الذي هو القياس أن فرضه تغير إلى الإتمام عملا بنية المتابعة وما دام في الوقت فهو في عرضة التغير بطروئية الإقامة ، فلم يتقرر فرضه ركعتين ، فنية المتابعة في الوقت مع عدم التقرر المذكور أثرت في الإتمام حتى لو زالت المتابعة في الوقت بأن أفسد المسافر صلاته خلف المقيم فإنه لا يصلي إلا ركعتين ولا أثر لنية المتابعة ، وبما قرروه ظهر فرق بين المقيس والمقيس عليه ، وبيان ذلك : أن الصبح ليس بعرضة للتغير أصلا بخلاف المقيس ، فإنه باتفاق عرضة للتغير بطروئية الإقامة كما قلنا ؛ ولذا كان لا يصح له الاقتداء بالمقيم بعد خروج الوقت لتقرر الركعتين فقياس صلاة المسافر في الوقت على صلاة الصبح قياس مع الفارق .
الرد عليه :
أولا : إن واقع ما قرر الحنفية تسليم بحجة الجمهور ومحاولة للتخلص منها بما لا يدفعها .
فإن نية الإقامة مما يؤثر في السفر باتفاق العلماء ، ومعقول أن يتأثر السفر وتتغير أحكامه بنية الإقامة .
ثانيها : أما دعوى أن نية المتابعة في الوقت تنهض سببا للتغير المذكور كنية الإقامة ، فدعوى عارية عن الدليل والصحة .
مناقشة الوجه الثاني لقياس الجمهور :
إن قياسكم القصر في السفر على الفطر في الصوم يعكر صفوه أن الحنفية لا يرون القصر رخصة إلا مجازا باعتبار الصورة حقيقته أنه عزيمة شرعت أولا وأقرها الشارع ، غاية ما في الأمر أنه لوحظ فيهما ابتداء بقاء التخفيف على المسافر .
وهذا ما لا تنطبق عليه الرخصة الحقيقية عند العلماء ، فلا يصح قياسها على ما هو حقيقة شرعت لعذر تخفيفا لحكم آخر دليله لا يزال معمولا به ( 1 ) .
الترجيح :
وبعد أن ذكرنا أقوال الفقهاء في هذه المسألة الهامة وأدلة كل فريق منهم وتعرضت لمناقشتهم لبعضهم البعض ، فإننا نرى أن القول الراجح في هذه المسألة الهامة هو ما ذهب إليه القائلون : إن قصر الصلاة رخصة معللين ذلك بأن الأصل الإتمام وأن القصر رخصة شرعه الإسلام للتخفيف عن المسافر خاصة وأن هؤلاء الفقهاء قد أكدوا ما ذهبوا إليه بأدلة متعددة تعرضنا لها بالبيان فيما سبق .
وهذا هو ما ذهب إليه المالكية والشافعية والحنابلة ، ومما يؤكد هذا القول ما استدل به هؤلاء من قول سيدنا عمر رضي عنه حينما سئل عن القصر وقد أمن الناس قال : " صدقة امتن الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " .
ولكن الأولى للمسافر أن يأخذ بالرخصة ؛ لأنها هنا عبارة عن هدية أهديت من الله عز وجل للمسافر أثناء سفره ، ولا يجوز للعبد أن يرد هدية الرب أبدا ، ونحن لا نستطيع أن ننكر أدلة المخالفين وهم الحنفية وأيضا لا نستطيع أن ننكر أدلة الجمهور ؛ ولأن كلا الفريقين يستدل بأدلة تطمئن إليها النفس ويرتاح إليها القلب فلهذا نقول : إن القصر والإتمام سواء ولا يجوز لإنسان أن ينكر على غيره ، فلا يجوز للمتم أن ينكر على الذي يقصر الصلاة أو العكس وإن كنا نرى القصر أولى من الإتمام ؛ لأن قصر الصلاة رخصة والإنسان مخير فيها بين الأخذ والترك كسائر الرخص ، والرسول صلى الله عليه وسلم ما واظب عليه إلا ليؤكد مشروعية القصر لكن عدم نهيه للمتم يدل على جواز الأخذ وعدمه ( 1 ) .


الفصل الثاني
السفر وأحكامه
واشتمل على خمسة مباحث
المبحث الأول :
المسافة التي تبيح القصر
المبحث الثاني :
السفر المبيح للقصر
المبحث الثالث :
الموضع الذي يبدأ منه القصر
المبحث الرابع :
مدة القصر
المبحث الخامس :
أحكام متعلقة بصلاة المسافر



المبحث الأول

المسافة التي تبيح القصر






المسافة التي تبيح القصر
اختلف الفقهاء في المسافة التي تبيح للمسافر قصر الصلاة على أقوال متعددة ؛ لأن الجميع اشترط مسافة محددة ليكون قصر الصلاة مباحا ، لكنهم اختلفوا في تحديد هذه المسافة :
أولا : مذهب المالكية والشافعية والحنابلة :
ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن مسافة القصر يوم وليلة ( 1 ) .
ثانيا : مذهب الحنفية :
وذهب الحنفية إلى أن مسافة القصر ثلاثة أيام ( 2 ) .
ثالثا : مذهب أهل الظاهر :
وذهب أهل الظاهر إلى أنه لا يشترط مسافة معينة للقصر فمطلق السفر يكون مبيحا للقصر ( 3 ) .
سبب الاختلاف :
وسبب الاختلاف بين الفقهاء في هذه المسألة يرجع إلى اختلافهم في مفهوم الآثار الواردة في ذلك .
استدل المالكية والشافعية والحنابلة على ما ذهبوا إليه ، وهو القول بأن مسافة القصر يوم وليلة وتقدر بأربعة بُرُدٍ .
وذلك لأنهم قدروا السفر بالأميال واعتبروا ذلك ثمانية وأربعين ميلا ، وهي تقدر بسير يومين أو ليلتين أو يوم وليلة ، وهي عبارة عن ثمانية وأربعين ميلا .
والميل يساوي 1760 ياردة ، والياردة تساوي 3 أقدام ، والقدم يساوي 12 بوصة ، والبوصة تساوي 5 , 2 سم ( 1 ) .
استدلوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة بُرُدٍ من مكة إلى عسفان " ( 2 ) .
وجه الدلالة :
ووجه الدلالة من هذا الحديث النبوي الشريف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأهل مكة : " لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد " وهذا نهي صريح من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل مكة بعدم قصر الصلاة لأقل من أربعة برد .
وكان سيدنا عبد الله بن عمر وسيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقصران ويفطران في أربعة برد فما فوقها ، ولم يعرف لهما مخالف في ذلك ، وهما من هما من الفقه والأمانة العلمية ، ولا يمكن أن يفعلا شيئا إلا عن علم علماه من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أما الحنفية فقد استدلوا على ما ذهبوا إليه ، وهو القول بأن أقل مسافة السفر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بما روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه سئل عن المسح على الخفين فقال : " جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم " ( 1 ) .
وجه الدلالة :
ووجه الدلالة من هذا الحديث النبوي الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للمسافر في المسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليها ومدة السفر أقل من هذه المدة ، وبهذا الحديث أخذ الحنفية في اشتراط مدة السفر بثلاثة أيام ولياليها وهي مدة تزيد على مسافة السفر .
واستدلوا أيضا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها مَحْرَم " ( 2 ) .
وجه الدلالة :
ووجه الدلالة من هذا أنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله وتؤمن بما جاء به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسافر وحدها مسيرة ثلاثة أيام إلا إذا كان معها زوجها كما جاء في رواية أخرى أو معها ذو رحم محرم ، وإلا كانت المرآة آثمة ؛ لأنه لا يليق بالمرأة المؤمنة أن تفعل ذلك أبدا .
وقالت الحنفية : لو لم تكن المدة مقدرة بالثلاث لم يكن لتخصيص الثلاث معنى .
أما أهل الظاهر فقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بظاهر النص القرآني حيث قال تعالى :
(وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) .
ووجه الدلالة من الآية أن الله سبحانه وتعالى علق القصر على السفر ، فكلما وجد السفر وجد القصر .
المناقشة :
ناقش الحنفية ما استدل به الجمهور على ما ذهبوا إليه وهو أن مسافة القصر لا تقل عن أربعة برد بحديث سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، قالوا في اعتراضهم عليه : هذا الحديث ليس مما تقوم به حجة ؛ لأن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبير وهو متروك ونسبه النووي إلى الكذب .
وقال الأزدي : لا تحل الرواية عنه ، والراوي عنه إسماعيل ابن عياش ، وهو ضعيف ( 1 ) .
وأما جمهور الفقهاء : المالكية والشافعية والحنابلة فقالوا فيما استدل به الحنفية :
إن تحديد المسح على الخف بثلاثة أيام لا يستلزم أن تكون مسافة القصر ثلاثة أيام ، وكذا يقال في نهي المرأة عن السفر مسيرة ثلاثة أيام إلا مع زوج أو ذي رحم محرم ؛ لأن الحكم على الأقل حكم على الأكثر ( 2 ) .
الترجيح :
وبعد أن عرفنا أقوال الفقهاء وأدلتهم في ذلك يتبين لنا أن الرأي الراجح في ذلك هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء ، وهو القول بأن مدة السفر أربعة برد ؛ وذلك لقوة أدلتهم التي استدلوا بها على ما ذهبوا إليه ، أما الحنفية فقد أخذوا بالقياس فيما ذهبوا إليه ، ولذلك رجحنا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء : المالكية والشافعية والحنابلة لقوة أدلتهم ووضوحها وعدم خفائها في بيان المدعى .






المبحث الثاني
نوع السفر الذي يبيح القصر
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أقوال متعددة :
أولا : مذهب المالكية والشافعية :
وذهب هؤلاء إلى القول بأنه يشترط في السفر الذي يبيح القصر أن يكون سفرا مباحا ( 1 ) .
ثانيا : مذهب أبي حنيفة والثوري وأبي ثور :
وذهب هؤلاء إلى عدم اشتراط أن يكون السفر سفرا مباحا وإنما أباحوا القصر لمطلق السفر لا فرق في ذلك بين السفر المباح أو السفر لمعصية ( 2 ) .
ثالثا : مذهب الحنابلة :
وذهب هؤلاء إلى ضرورة أن يكون السفر سفر طاعة كالحج والعمرة ونحو ذلك ( 3 ) .
سبب الاختلاف :
وسبب اختلاف الفقهاء في هذه المسألة يرجع إلى معارضة المعنى المعقول أو ظاهر اللفظ لدليل الفعل ، وذلك أن من اعتبر المشقة أو ظاهر لفظ السفر لم يفرق بين سفر وسفر .
وأما من اعتبر دليل الفعل قال : إنه لا يجوز إلا في سفـر الطاعة الذي يقصد به التقرب إلى الله عز وجل ؛ لأن رسـول الله صلى الله عليه وسلم لم يثبت أنه قَصَرَ إلا في سفر قربة إلى الله عز وجل .
وأما من فرق بين المباح والمعصية فعلى جهة التغليظ ، والأصل فيه هل تجوز الرخص للعصاة أم لا ؟ ، وهذه المسألة عارض فيها اللفظُ المعنَى فاختلف الناس فيها لذلك ( 1 ) .
الأدلة :
استدل القائلون بأن المسافر الذي يباح له قصر الصلاة هو المسافر في غير معصية بأن الرخص لا يجوز أن تتعلق بالمعاصي وجواز الرخص في سفر المعصية إعانة على المعصية وهذا لا يجوز ( 2 ) .
وهذا يكون موافقا لما ذهب إليه المالكية والشافعية والحنابلة ، وإن كان الحنابلة يرون أن سفر الطاعة فقط هو الذي يبيح القصر للمسافر .
لكننا نرى أن السفر المباح ما دام لا يؤدي إلى معصية فإنه يكون سفر طاعة ، فالمسافر للتجارة والمسافر لزيارة أخ في الله ، ونحو ذلك هو سفر طاعة ؛ لأنه لا يشتمل على معصية ، وهذا ما ذهب إليه المالكية والشافعية والحنابلة كما ذكرنا .
دليل الحنفية ومن معهم :
استدلوا على ما ذهبوا إليه بالقول بأن أي سفر يكون مبيحا لقصر الصلاة ، لا فرق في ذلك بين سفر الطاعة أو المعصية ، وقالوا : عموم الأدلة الواردة في ذلك لم تفرق بين سفر وسفر .
ومن هذه الأدلة :
1 - قول الله تعالى في سورة البقرة (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ( 1 ) .
وجه الدلالة :
ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى رخص الفطر مع شرط قضاء أيام أخر بالنسبة للمريض والمسافر ، والآية لم تحدد نوع السفر فيظل الحكم على إطلاقه ، لا فرق بين سفر طاعة أو سفر معصية .
2 - روي عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن المسح على الخفين فقال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل مسافر أن يمسح ثلاثة أيام ولياليهن ويوما وليلة للمقيم( 1 ).
وجه الدلالة :
ووجه الدلالة من هذا الحديث النبوي الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن من غير فصل بيت سفر وسفر ؛ ولهذا وجب العمل بعموم النصوص وإطلاقها ( 2 ) .
3 - إن نفس السفر ليس بمعصية ، وإنما المعصية ما يكون بعده أو يجاوره فصلح متعلق الرخصة ( 3 ) .
الترجيح :
والراجح في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء : المالكية والشافعية والحنابلة الذين قالوا :
لا يجوز للمسافر سفر معصية قصر الصلاة .
وذلك لأن الرخص شرعت للإعانة على سبيل المقصد المباح توصلا إلى المصلحة ، فلو شرعت الرخصة للعاصي لكانت قد شرعت للإعانة على المحرم تحصيلا للمفسدة والشرع منزه عن هذا.
والنصوص الشرعية وردت في حق الصحابة ، وكانت أسفارهم مباحة ، وبالتالي فإنه لا يثبت الحكم فيمن سفره مخالف لسفرهم ، ويتعين الحمل على ذلك جمعا بين النصين .
وقياس المعصية على الطاعة يؤدي إلى التضاد .
ولهذا كله فقد رجحنا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء المالكية الشافعية والحنابلة وهو أن العاصي بسفره لا يباح له قصر الصلاة ، وإن كنت لا أتصور إنسانا يسافر من أجل ارتكاب معصية ، وهو يبحث عن الترخص له بقصر الصلاة أثناء سفره أو عدمها ؛ لأن الإنسان يعلم أن الصلاة قربة إلى الله ووقوفه بين يديه من أجل الامتثال والخشوع والخضوع والاعتراف بأن الله عز وجل وحده هو المطلع على أسرارنا العالم بما تخفيه صدورنا .
ولكن مع هذا فقد تعرضنا لأقوال الفقهاء في هذه المسألة احتراما منا لأئمتنا وعلمائنا الكرام وتقديرا لما بذلوه من تراث فقهي عظيم ، ووجهة نظري هذه قد تحتمل الخطأ وقد تحتمل الصواب ، فالكمال لله عز وجل وحده .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فيديو الحلقه التى أثارت الصهاينة و تسببت فى إغلاق قناة الرحمة